الفصل 4: بوابات الروح
في غرفته الصغيرة ذات الجدران المليئة بالملصقات والكتب القديمة، جلس يوسف أمام شاشة حاسوبه، وعيناه تتنقلان بين النصوص والمقالات التي كانت تظهر أمامه. لم يكن بحثه عادياً هذه المرة؛ لقد استحوذت فكرة "الجسم الأثيري" على تفكيره، وكأن إجابة وجوده ذاته تكمن في هذا المفهوم الغامض.
بدأ البحث بسؤال بسيط: ما هو الجسم الأثيري؟
ظهرت عشرات النتائج، بعضها يتحدث عن الروح، وبعضها عن الإسقاط النجمي، وأخرى تصف الجسم الأثيري بأنه مجرد خرافة. لكنه لم يكن يبحث عن آراء سطحية، بل عن إجابات عميقة. غاص في قراءة كل سطر، يدوّن ملاحظاته ويربط بين النقاط.
اكتشف يوسف أن الجسم الأثيري يُعتبر الجسر الطاقي بين الروح والجسد المادي. إنه ليس الروح نفسها، ولكنه صورة شفافة تحمل وعي الإنسان وترافقه أثناء النوم أو التأمل العميق. يتحرك هذا الجسم بحرية، مرتبطًا بالجسد المادي عبر ما يُعرف بـ "الحبل الأثيري"، حبل طاقي متين لا ينقطع إلا عند الموت.
قرأ أيضًا أن الجسم الأثيري قادر على العبور عبر المادة الصلبة؛ إنه يتحرك وفقًا لإرادة الوعي. إذا قرر الوعي أن شيئًا ما يمثل حاجزًا له، فإنه يصبح كذلك. الوعي هو المفتاح، فهو الذي يتحكم بالجسم الأثيري ويحدد حدوده وإمكاناته.
عندما تعمق أكثر، وجد يوسف أن الإسقاط النجمي هو العملية التي يمكن للجسم الأثيري من خلالها مغادرة الجسد الفيزيائي والسفر إلى أماكن مختلفة أو حتى أبعاد أخرى. تتطلب هذه التجربة تركيزًا عميقًا، استرخاءً تامًا، وهدوءًا داخليًا.
بدأ يقرأ عن تقنيات تُستخدم لتحقيق الإسقاط النجمي، مثل:
1. تقنية الحبل: تخيل وجود حبل يتدلى فوق جسدك، ثم حاول استخدام جسمك الأثيري لتسلقه.
2. تقنية الدوران: تخيل أنك تدور ببطء خارج جسدك، حتى تشعر بالانفصال.
3. الاسترخاء والتنفس العميق: ركز على التنفس، وأرخِ عضلاتك، واستسلم للهدوء التام.
4. وعي الجسم الأثيري: حاول أن تشعر بوجود جسمك الطاقي وابدأ بالتحكم فيه.
تابع يوسف بعينين متسعتين وهو يقرأ وصف التجربة:
"عندما تصل إلى مرحلة شلل النوم، ستشعر وكأن جسدك يغطس في بحر من السكينة، وتصبح بلا وزن. وعيك سينفصل تدريجيًا عن جسدك المادي. قد تسمع أصواتًا أو ترى كائنات غريبة، لكن لا تخف، فهي مجرد تهيؤات من عقلك الباطن."
فكر يوسف في التحذيرات: أن البعض يخاف عند سماع هذه الأصوات أو رؤية هذه الكائنات، لكن ذلك اختبار طبيعي للعقل للتأكد من استعداد الوعي للانفصال.
انتقل يوسف إلى البحث عن الأحلام الواضحة، تلك التي يدرك فيها الشخص أنه يحلم. قرأ أن هذه الأحلام يمكن أن تتحقق من خلال التدريب على تقنيات معينة:
1. فحص الواقع: التحقق بشكل منتظم خلال اليوم إن كنت في حلم أو واقع، كالنظر إلى الساعة أو قراءة نص، حيث يتغير كل شيء بشكل غير منطقي في الأحلام.
2. كتابة الأحلام: تدوين الأحلام فور الاستيقاظ لتعزيز الوعي بها.
3. تقنية النية: تكرار جملة مثل "سأدرك أنني أحلم" قبل النوم.
قرأ عن فوائد الأحلام الواضحة، مثل القدرة على التحكم في الأحداث واستغلال وقت النوم لتعلم مهارات جديدة، مواجهة المخاوف، أو حتى قضاء وقت ممتع في عالم من صنع خيالك.
لاحظ يوسف أن كل هذه الظواهر ترتبط بالطاقة الطبيعية للجسم. قرأ أن الجسم يعتمد على تدفق طاقة تُعرف بالبرانا، والتي تمر عبر مراكز تُسمى الشاكرات. عندما تكون هذه المراكز متوازنة، تتضاعف قدرة الجسم الأثيري على التحرك والعمل.
قرر يوسف أن يجرب التأمل أولاً، لإعادة شحن طاقته وتنظيم شاكراته قبل خوض تجربة الإسقاط النجمي أو الأحلام الواضحة.
عاد يوسف بذاكرته إلى الحديث عن البوابة والرموز. بحث عن كلمات مثل "البوابات الأثيرية" و"الرموز القديمة"، لكنه لم يجد الكثير. شعر أن هذه المواضيع تُخفي شيئًا أكبر مما يتصوره.
جلس يوسف متكئًا على كرسيه، يدون ملاحظاته في دفتره، وعيناه تحدقان في شاشة الحاسوب. كل ما قرأه جعله يشعر بأنه يقترب من كشف حقيقة غامضة. تساءل في نفسه:
"هل يمكنني فعلاً تجربة الإسقاط النجمي؟ ما هي البوابة التي تحدثو عنها؟ واين هي؟
الفصل 5: صباح مغربي
استيقظت سارة على أصوات العصافير التي تحلق فوق أشجار الساحة، بينما كان ضوء الشمس يتسلل عبر النافذة الصغيرة في غرفتها. المنزل كان بسيطًا، لكنه ينبض بالدفء والراحة. وضعت قدميها على الأرض الباردة وتوجهت لغسل وجهها. كان صباحًا مغربيًا نموذجيًا في منزل عائلة محافظة.
عائلتها كانت تتألف من والدها محمد، الحارس الليلي لإحدى المدارس الاعداديات، ووالدتها عائشة، ربة المنزل الحكيمة التي تحمل عبق التقاليد، وأخيها يوسف، مدرب التايكواندو الشغوف. بيت صغير في مقدمة الاعدادية، كان المنزل جزءا من المدرسة الاعدادية وبعض الشجيرات بجانبه أضافت لمسة سحرية للحياة اليومية. أما كلب العائلة الوفي، فكان يرقد في سطح البناية، يهز ذيله بحماسة عندما شعر بخطواتها.
اجتمعت العائلة حول طاولة الإفطار التقليدية. الشاي المغربي المنعنع يملأ الأكواب، وصحن "الملوي" الساخن في المنتصف. ساد الجو هدوء بسيط، يتخلله صوت والدها وهو يراجع جدول عمله، وأخيها يوسف يشرح بخفة روح خططه لتدريب التايكواندو، بينما عائشة تراقب الجميع بابتسامة.
غادرت سارة المنزل متجهة نحو الجامعة، مرتدية حقيبتها البسيطة، تسير بخفة بين أزقة الحي. كانت الأجواء معتادة، مليئة بالحركة والضجيج، لكنها كانت تحب هذا المشهد اليومي الذي يبعث فيها إحساسًا بالانتماء.
مع اقترابها من الجامعة، دخلت أحد الأزقة الجانبية لتجنب الزحام. فجأة، ظهرت أمامها مجموعة الشباب المشاغبين من الجامعة. كان عمر، زعيم المجموعة، يبتسم بسخرية، بينما وقف أصدقاؤه بجانبه كظلٍّ يحوم حوله. لمحها عمر، ولم يفوت الفرصة للاقتراب منها.
"إلى أين يا أميرة؟ لما تتجاهلينني انا معجب بك اعشقك كثيرا؟" قالها عمر بابتسامة ساخرة، بينما اقترب خطوة نحوها.
قبل أن ترد، ظهر يوسف من العدم، متجهًا بخطوات ثابتة نحوهم. كانت عيونه تمتلئ بالغضب، ونظرته تُرسل رسالة واضحة لا تحتاج لكلمات.
"ماذا هناك؟" قال عمر مستفزًا. "لماذا تنظر إلينا بهذا الشكل؟ هل تريد أن ألقنك درسًا؟"
تقدم يوسف خطوة وقال بصوت غاضب: "ابتعدوا عنها، ألا تفهمون؟ أنتم مجرد حشرات، ولا أحد يحبكم. تصرفاتكم تثير الشفقة."
لم يتحمل عمر الإهانة، فلكم يوسف بقوة جعلته يسقط على ظهره. حاول أصدقاؤه التدخل، لكن سارة وقفت بحزم بينهم وبين يوسف، وقالت بثقة:
"توقفوا! لن أكون معك، عمر، مهما حاولت. التنمر على الضعفاء هو علامة ضعف في شخصياتكم أنتم، وليس في الآخرين."
توقف عمر للحظة، ثم ابتسم ابتسامة خبيثة وقال: "المرة القادمة، ستكون نهايتك، يوسف." ثم غادر مع أصدقائه.
نهض يوسف بصعوبة، ووجهه يحمل علامات الألم، لكن نظرته بقيت ثابتة. التفتت إليه سارة وسألته: "هل أنت بخير؟"
بصوت ضعيف ومرتبك، أجاب: "نعم... شكرًا لكِ. إنهم حقراء، لا تهتمي لهم."
ابتسمت ابتسامة خفيفة أضاءت وجهها وسحرته. استدارت وأكملت طريقها نحو الجامعة. وقف يوسف مكانه، يراقبها وهي تبتعد، وشعر بشيء غريب في داخله، شيء لم يفهمه تمامًا.
أما هي، فأكملت سيرها وهي تبتسم لنفسها وتفكر: "يا له من أخرق...".
الجامعة
وصلت سارة إلى الجامعة، ووجدت الطلاب يتجمعون في الساحة الرئيسية. دخلت إلى الفصل، وجلست تنتظر بدء الدرس. مرّت بعض الدقائق قبل أن يدخل عمر وأصدقاؤه، نظراتهم مليئة بالضغينة. تجاهلتهم وجلست في مكانها، وركزت على دفاترها.
بعد قليل، دخل ثلاثي المرح خالد وأسماء وحميد، ضاحكين كالعادة، واتجهوا للجلوس معًا. كانوا دائمًا يشكلون فريقًا لا يفترق، وكان وجودهم يضيف جوًا من الحيوية والبهجة.
ثم دخل يوسف. كان وجهه لا يزال يحمل آثار الشجار، وخدّه الأحمر وبعض الدماء بجانب فمه لفتت الانتباه. نظر نحو سارة وابتسم بخفة، ثم توجه إلى مقعده في آخر الصف.
همست أسماء لرفيقيها: "انظروا إلى يوسف، يبدو أنه تعرض لهجوم آخر من المشاغبين. إنه مسكين، أشعر بالأسف له."
بعدما جلس يوسف في قاعة المحاضرات محاولاً التركيز على الشرح، بدأ ذهنه ينسحب تدريجياً إلى أحداث الليلة الماضية. استعاد التفاصيل كما لو أنها حدثت للتو، مستعرضًا رحلته الأولى نحو محاولة تجربة الإسقاط النجمي.
بعد انتهائه من قراءة المقالات العميقة حول الجسم الأثيري والإسقاط النجمي، شعر يوسف بحماس ممزوج بشيء من الترقب والقلق. أطفأ حاسوبه، وأسدل ستائر غرفته الصغيرة لتصبح معتمة تماماً. جلس على فراشه بتأنٍ، ثم استلقى ببطء، مهيئاً نفسه لأول تجربة له مع هذا العالم المجهول.
اتكأ يوسف على ظهره، وأغمض عينيه بهدوء. أخذ نفسًا عميقًا، ثم بدأ في إطلاقه ببطء. حاول أن يتخلص من أي توتر متبقٍ في جسده، تاركًا عضلاته تسترخي شيئًا فشيئًا. بدأ يتنفس كما لو كان نائمًا، بتنفسٍ عميقٍ ومتوازن، محاولًا محاكاة إيقاع النوم الطبيعي.
بعد بضع دقائق من الاسترخاء التام، شعر يوسف بثقل يسيطر على جسده، وكأن وزنه قد تضاعف. كان هذا الشعور غريبًا ولكنه لم يكن مخيفًا. بدأ الإحساس بالدفء يتصاعد في منطقة الصدر، وانتشرت اهتزازات طفيفة في أطرافه. كانت هذه الاهتزازات أشبه بموجات صغيرة تمر عبر جسده، مما جعله يشعر بأنه يغوص أعمق وأعمق في بحر من السكون.
بدأ وعيه ينفصل تدريجيًا عن الواقع المادي، ليشعر بشيء أشبه بالانزلاق نحو أعماق غامضة. كان الوقت يمر ببطء شديد، ودقات قلبه التي تسارعت فجأة قبل أن تعود إلى طبيعتها أعطته شعورًا مزيجًا من التوتر والحماس.
وفي لحظة لم يكن يتوقعها، اجتاحه شعور لا يوصف بالتحرر. كأنه استطاع أن يفلت من قيود الجاذبية المادية. لم يكن جسده المادي ما يشعر به الآن، بل شيء آخر، أكثر خفة ومرونة. كان وكأن كل الحدود بينه وبين العالم قد تلاشت. شعر بطاقة دافئة تمر عبره، تربطه بحبلٍ غير مرئي يمتد إلى جسده.
ولكن، بينما كان يحاول استيعاب هذا الشعور، وجد تركيزه يتلاشى شيئاً فشيئاً. أفكاره بدأت تتداخل، وبدلاً من استكمال التجربة، وجد نفسه يغرق في نوم عميق. لم يتذكر متى أو كيف توقف كل شيء، لكنه استيقظ في الصباح على صوت المنبه وكأن شيئاً لم يكن.
عندما انتهت ذكرياته من الليلة الماضية، نظر يوسف إلى زملائه في القاعة بعينين شاردتين. بدا له أن التجربة لم تكن فاشلة تماماً؛ فقد لمس شيئاً جديداً، شعوراً غير مألوف ولكنه مثير. قال في نفسه بصوت داخلي حاسم: "هذه الليلة ستكون مختلفة. لن أسمح لفقدان التركيز أن يمنعني. سأصل إلى ما أبحث عنه، وأخوض هذه التجربة بالكامل."
عاد ذهنه إلى الحاضر، وأخذ يدوّن أفكارًا عشوائية في دفتره، محاولاً وضع خطة دقيقة لتحسين تقنيته هذه الليلة. بالنسبة ليوسف، أصبح الإسقاط النجمي ليس مجرد فضول عابر، بل رحلة اكتشاف لذاته ولمعاني أعمق من وجوده.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
الموسوعة العامة تحتوي على كل ما يهمك من عمل أو تحميل للأفلام أو أخبار... مجانا